بسم الله الرحمان الرحيم
قرأها و أذن بنشرها فضيلة العلامة :
أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
إنَّ الحمد لله، نحمده، و نستعينه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، أحكم كتابه، و جلَّى بالحقِّ بيانه، و أشهد
أنَّ نبينا محمدًا عبد الله و رسوله أفضل من صدع بالحق و بيَّن، صلى الله
عليه و على آله و أصحابه أجمعين، و من سلك سبيلهم، و ترسم خطاهم إلى يوم
الدين .
أما بعد :
مظان هذا الموضوع : بيان بعض الفوائد التي استقر العمل بها عند كثير من الأئمة الأخيار؛ و هو ابتداء كتبهم بالبسملة .
وجرت العادة أنَّ أكثر المشايخ و الطلاب المستفيدين في شروحهم للمتون و
الكتب العلمية يذكرون بعض فوائد البسملة بين مقل و مكثر في ذكرها، لذا وددت
أن أسهم بجهد المقل في جمع بعضها تكميلاً للفائدة و إعانة للطلاب في
ضبطها، حتى لا تعزب هذه الفوائد عن أذهان إخواني حفظهم الله تعالى؛ و كان
مما جمعته :
الفائدة الأولى : البداءة بالبسملة تأسيا بكتاب الله تعالى .
عن أم سلمة أنها ذكرت - أو كلمة غيرها - قراءة رسول الله ﷺ : (( بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ
آيَةً آيَةً )) ( ) .
فأول ما يقرأ القارئ القرآن يبدأ بالبسملة .
عن قتادة قال : سئل أنس : كيف كانت قراءة النَّبِي صلى الله عليه وسلم؟
فقال : كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ﴾ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ،
وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ ( ).
عن أنس قال : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : ((أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ )) فَقَرَأَ : ﴿ بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [ الكوثر : 1 – 3 ] ...))( ) الحديث .
و كذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه :
عن أنس رضي الله عنه : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَتَبَ
لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(( هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه
وسلم... )) ( ) الحديث .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ( ) .
الفائدة الثانية : تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مراسلاته ،
ثبت في الصحيحين :
عن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه قال : أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فَأَتَوْهُ،
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ
مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ،
السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ )) ( ) .
و كذلك في الصلح ، لما صالح قريش أمر الكاتب بذلك :
قال الزهري فِي حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم
كتابًا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلمﷺ الكاتب، فقال النبي ﷺ : (( بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... )) ( ) الحديث.
عن أنس رضي الله عنه : أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلمﷺ -فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم
لِعَلِيٍّ : (( اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ...)) ( ) الحديث
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على
افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا
كان الكتاب كله شعراً فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري قال : مضت السنة
أن لا يكتب في الشعر (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) .
[ أخرج ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز قال : إن الشعر لا يكتب فيه ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ]( ) .
وعن سعيد بن جبير جواز ذلك وتابعه على ذلك الجمهور، وقال الخطيب هو المختار( ) .
و سألت الشيخ الفاضل عبد الكريم بن أحمد الحجوري حفظه الله؛ هل كتابة البسملة في كتاب الشعر جائزة ؟
فقال لي : الصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ و الله أعلم .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فهو أبتر )) . رواه الخطيب
والحافظ عبد القادر الرهاوي ( ) .
الفائدة الثالثة : الباء في(بِــــسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) للاستعانة،
[ و الاستعانة هي التوكل عليه و الاعتماد عليه سبحانه و لهذا قال الله : ﴿
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [سورة الفاتحة : 5 ] ، نخص
الله بالعبادة، و نخصه بالاستعانة، قال الله تعالى : ﴿ قُلْ هُوَ رَبِّي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [ سورة
الرعد : 30 ] ، و قال الله تعالى : ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ
عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [ سورة النمل : 79 ] ، و قال عز من قائل : ﴿
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة المائدة
: 23 ] ، و التوكل شرط صحة الإيمان ] ( ) .
فتبدأ مستعينا بالله، و المسلم بحاجة دائما إلى العون من الله في جميع
أموره، إذا أعانك الله، فأنت موفق؛ و إذا لم يعاون الله العبد ، فلا يستطيع
أن يعمل؛ فلذلك يستحضر المسلم في جميع أموره، عون الله سبحانه .
و لله در القائل :
إذا لم يكن من الله عون للفتى **** فأول ما يجني عليه اجتهاده.
الفائدة الرابعة : التبرك بالبداءة ببسم الله سبحانه و تعالى .
الفائدة الخامسة:
الجار و المجرور في البسملة متعلق بمحذوف، تقديره فعل لائق بالمقام، فإذا
قلت: ( باسم الله) و أنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: ( بسم الله آكل ) و
قدرناه متأخرا لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
الفائدة الثانية : الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأن تقول : لا آكل
باسم أحد غير، و مستعينا به، إلا باسم الله عز وجل و قدرناه فعلا؛ لأن
الأصل في العمل الأفعال – و هذه يعرفها أهل النحو - ؛ و لهذا لا تعمل
الأسماء إلا بشروط .
و قدرناه مناسبا؛ لأنه دل على المقصود؛ و لهذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ ) ( )، أو
قال صلى الله عليه وسلم : (عَلَى اسْمِ اللَّهِ) ( )، فخص الفعل ( ).
و لا يتعلق بإسم على الصحيح، لأنه إذا علق بإسم لكان مصدراً، و المصدر لا يعمل محذوفا .
الفائدة السادسة :
لفظ الجلالة مشتق لقوله ( الله ) و هذه الكلمة هي أعظم أسماء الله على
الله، و معناها عَلَمٌ على المعبود بحقٍ، ووزنها ( فِعَالٌ ) بمعنى ( مفعول
) يعني بمعنى ( مألوه ) ، و نقل سيبويه عن الخليل أن أصله : ( إلاه ) مثل
فعال فأدخلت الألف و اللام بدلا من الهمزة .
قال سيبويه : مثل الناس أصله : أناس ، و قيل : أصل الكلمة : (لاه ) ، فدخلت
الألف و اللام للتعظيم و هذا اختيار سبويه ( ) ، فحذفت الهمزة التي هي فاء
الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف ،
فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة ، فخمت تعظيما
فقيل : ( الله ) .
الفائدة السابعة :
﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ : اسمان من الرحمة، الرحيم و الرَّاحم بمعنى
واحد، كالعليم و العَالِمِ اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة( ) .
[ و الرحمن دالٌ على الصفة القائمة به سبحانه، و الرحيم دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول الوصف و الثاني للفعل .
فالأول دال على أن الرحمة صفة، و الثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته
..... و هذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب و إن تنفست عندها مرآة قلبك، لم
تنجل لك صورتها ] ( )
قال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله
تعالى، و الرحيم إنما هو من جهة المؤمنين قال الله تعالى :﴿ وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [ الأحزاب : 43 ] ، و قال ابن عباس : هما اسمان
رقيقان أحدهما أرق من الآخر ، أكثر رحمة ( ) .
و الجمع بينهما بديع و تصوير بليغ؛ حيث أن الاسمان مشتقان من الرحمة، إلاَّ
أنَّ الرحمن مختص به تعالى، إذ لا يجوز أن يسمى به أحد غير الله تعالى، و
الرحيم عام من حيث الاشتراك في التسمي به .
و الحمد لله رب العالمين